المقال نشر في ٢٧ ديسمبر كانون الأول ٢٠١٣ في جريدة القبس الكويتية
أنسيتـم لغتكـم؟
المشهد الأول : التوابل
تدخل المقهى أسرة أرجنتينية، فيتحدث أفرادها فيما بينهم بالاسبانية
تدخل المقهى أسرة فرنسية، فيتحدث أفرادها فيما بينهم بالفرنسية
تدخل المقهى أسرة برازيلية، فيتحدث أفرادها فيما بينهم بالبرتغالية
تدخل المقهى أسرة أمريكية، فيتحدث أفرادها فيما بينهم بالانكليزية
ثم تدخل المقهى أسرة عربية، فيتحدث أفرادها فيما بينهم بالانكليزية مع بعض التوابل العربية مثل: عن جد، والله، بالله، خلص
ثم تدخل المقهى أسرة عربية أخرى، فيتحدث أفرادها بالعربية مع كثير من التوابل الانكليزية
تتعذب مسامعي ، فأضع سماعات ملؤها الموسيقى كي تعزلني عن التلوث اللغوي المزعج
---
المشهد الثاني : نسيتُ العربية
ألا تتحدثين الانكليزية؟
سألتني بانكليزية لا تخفى على أحد فيها الأصول اللغوية العربية، فالراء
راء عربية صارخة والباء باء عربية وليست "بي" أعجمية
P
خمنتُ بلدها من لكنتها ومن لحن الجملة، بالانكليزية طبعاً
فقلتُ، بالعربية: ألا تتحدثين العربية؟ أنتِ من (اسم البلد)، صح؟
فردت من جديد بانكليزيتها العربية اللفظ: نعم صحيح. لكني اعتدت على الانكليزية فهنا لا تعرف من يتحدث العربية ومن لا يتحدثها. لقد نسيتُ العربية
هي نسيت العربية؟!!! هل يمكن لشخص أن ينسى لغتَه الأم؟
---
المشهد الثالث : إنكار الذات
أتعجبكِ الحياة في الإمارات يا ديمة؟
سألْتني بانكليزية فائقة، أمريكية اللكنة
قأجبتُ بالانكليزية: نعم... ألا تتحدثين العربية؟
فقالت، بالانكليزية: نعم
فواصلتُ بالعربية: الحياة هنا سهلة وسلسة بشكل عام، وآمنة، لكني أشعر بغربة لغوية بسبب عدم استخدام اللغة العربية. الناس لا تتحدث العربية كثيراً
فردت علي، بالانكليزية: نعم معك حق هي مشكلة، أنا أيضاً يزعجني الأمر
سكتتُ بضع لحظات .. ربما هي لا تلاحظ أنها ما زالت ترد علي بالانكليزية
فواصلتُ بالعربية: مثلاً تتحدثين إلى الناس بالعربية فيردون عليك بالانكليزية رغم إصرارك على العربية
فردت علي، بالانكليزية من جديد، وهي تضحك، لتؤكد كلامي وتؤكد انزعاجها هي أيضاً من الأمر
أصابتني حالة من الجمود. ألا تلاحظ على نفسها أنها ترد علي بالانكليزية، وهي شخص على تحصيل جامعي عال؟ هل علي أن أنبهها إلى أنها تدعي أن الأمر يزعجها وفي الوقت ذاته تمارسه في الحديث حول الموضوع نفسه؟ هل هو انفصام؟ أم ازدواجية؟ أم انكسار داخلي نفسي؟
---
هذه المشاهد تتكرر في الحياة اليومية إلى حد يجعل الكثيرين لا يلاحظون أساساً ظاهرة ابتعاد الناطقين بالعربية عن التحدث بالعربية، فتصبح شيئاً عادياً
ظننت بعد غربة طويلة أن الأمر يقتصر على الإمارات، بحكم وجود نسبة عالية للغاية فيها من الأجانب، لكني سافرت خلال العام الفائت إلى بلدان عربية أخرى في منطقة الخليج وخارجها لا يوجد فيها نفس الكم من الأجانب، فوجدت الآفة ذاتها تتفشى بين الناس. ربما في بعض البلدان يقتصر الأمر على طبقة معينة من الناس فقط، لكنها شريحة واسعة جداً من المجتمع، وهي شريحة "المثقف" المتعلم والمهني في شتى المجالات بما فيه الكاتب والصحفي والمعلم والفنان وحتى الأستاذ الجامعي
وتفاجأت بأن حتى أفراد أسرتي وأصدقائي القدامى قد انخرطوا في ممارسة تحدث الانكليزية فيما بينهم وحتى في المنزل، دون أن يشعروا بذلك، وإن شعروا فلا يزعجهم الأمر، لدرجة أنني أصبحت أشك أنني الوحيدة التي يزعجها الأمر في بيئتي
لقد عشت في عدة قارات في العالم في حياتي القصيرة. لم أشهد مثل هذه الظاهرة إلا عند العرب
في كل الدول الأوروبية التي زرتها أو درست فيها أو عملت فيها كان الناس يتعلمون لغات أجنبية من أجل السفر أو الدراسة أو أي سبب آخر. لكنهم يتحدثون فيما بينهم ومع الأجنبي بلغاتهم، إلا إن كان الأجنبي غير قادر على التفاهم معهم بلغاتهم الأصلية. وفي بلد مثل سويسرا فيها أربع لغات رسمية كان أغلب الناس يتحدثون لغتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو أكثر، لكن فيما بينهم يتحدثون كل بلغته الأم
عشت في هونغ كونغ التي كانت تحت حكم بريطانيا على مدى ١٠٠ عام، ولم يكن قد مر وقت طويل على عودتها للصين، وكان أهلها يتحدثون بالصينية (الكانتونية) وليس بالانكليزية. لم أجد هناك سوى أقلية قليلة جداً من نخبة ثرية متكبرة وبرجوازية كانت تتحدث بالانكليزية وتتمسك بها. وإلا فباقي الشعب كان يتحدث الانكليزية فقط إن اضطر إليها مع الأجانب، ولم يكن سوى القليل منهم يتقنون الانكليزية
وفي كل البلدان الآسيوية التي تجولتُ فيها ومنها فييتنام، لاوس، تايلاند، تايوان، اليابان، الصين كان الناس يتحدثون بلغاتهم بشكل طبيعي جداً. حتى أني توقعت أن أجد انتشار الفرنسية في فييتنام بحكم الاستعمار الفرنسي سابقاً لكني لم أجد الفرنسية سوى لدى نخبة من الفنانين والمثقفين، وكانوا يتحدثونها مع الأجانب وليس فيما بينهم
في أمريكا الشمالية لا داعي أساساً للخوض في المشكلة لأن الناس هناك لا يتعلمون عادة لغات أجنبية ولا يشعرون بالحاجة إليها لأنهم يفترضون أن الكل في العالم يتحدث الانكليزية – وهو أمر غير صحيح طبعاً
في استراليا ونيوزيلاندا كان الحال مشابهاً للولايات المتحدة الأمريكية بمعنى أن الناس لا تتعلم لغات أجنبية ولا تشعر بالحاجة لها بسبب البعد الجغرافي عن كل شيء، لكن الفرق أن نسبة المهاجرين العالية من شتى أنحاء العالم هناك تجعلهم واعيين، في المدن على الأقل، لوجود لغات أخرى ولأهميتها
أما في أمريكا اللاتينية آخر محطاتي في العالم، ففي كل تجوالي وترحالي – وأنا زرت كل بلدان أمريكا الجنوبية والوسطى تقريباً - لم أصادف شعباً يتبنى لغة للتخاطب مع أبناء شعبه غير لغة بلده. هناك طبقة ثرية برجوازية تحرص على تعليم أبنائها اللغة الانكليزية لكني لم أسمع يوماً أحداً من تلك الطبقة يحدث شخصاً آخر من بلده بالانكليزية. طبعاً هم في أمريكا اللاتينية تبنوا لغات مستعمريهم السابقين وأهمها الاسبانية والبرتغالية، علماً بأن بلدان القارة نالت استقلالها قبل مئتي عام تقريباً بعد استعمار أوروبي قاس ودموي دام أربعة قرون وكان قمعياً على كل المستويات، منها الثقافية-اللغوية. اللغات التي ورثتها القارة عبر الاستعمار أصبحت جزءاً من ثقافة تلك الشعوب ويشعر الإنسان باعتزازهم الشديد بها، مع العلم أنهم يتحدثونها اليوم بشكل يختلف عن اسبانيا والبرتغال وقد أسسوا بناءً عليها ثقافات وفنوناً وآداباً وأبدعوا في جوانب منها. وفي الوقت ذاته فهم يعملون في السنوات الأخيرة على استعادة لغاتهم الأصلية وإحيائها ودعمها من خلال مشاريع جادة بدأت توتي ثمارها، وهي لغات يتحدثها حتى اليوم ما تبقى من السكان الأصليين الذين كانوا هناك قبل وصول المستعمر الأوروبي
جميل أن نتعلم لغات أجنبية وأن نثري معرفتنا الثقافية والتاريخية والحضارية. لكن لمَ نتخلى عن لغتنا؟ لم نزحف نحو وأد ثقافتنا ولغتنا بأنفسنا؟
جبران خليل جبران كتب: ويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتشرب مما لا تعصر
لو عرف ما آل إليه حالنا اليوم لربما كتب أيضاً: ويل لأمة تحتقر لغتها فتهملها وتجهلها وتنطق وتفكر بلسان أخرى