31 Jul 2013

يوميات فنزويلية : بلاد بلا موعد



كاراكاس ٢٦ يوليو ٢٠١٣
الطقس: مشمس ثم غائم ثم ماطر ثم غائم
درجة الحرارة: ما بين ٢٢ و٢٦ درجة مئوية


مفهوم "الموعد" في فنزويلا يختلف تماماً عن مفهوم الموعد في معظم ثقافات وبلدان العالم، ربما لأنها بلد كاريبي أهله لا يحبون الالتزام، ويعشقون ملذات الحياة

في أيامي الأولى هنا أذكر أن زميلاً صحفياً دعاني إلى العشاء من باب الترحيب بي وتعريفي بأسرته ومساعدتي في أي شيء قد أحتاجه. حان وقت العشاء وانتظرت في المطعم. تأخر فاتصلت به. لا يرد. أرسلت له رسائل نصية. لا يرد. مرت ساعتان وجاء النادل يلح بأن علي أن أطلب شيئاً لأن المطبخ سوف يغلق. فطلبت الطعام ودفعت. وهو لا يرد

بعد حوالي خمسة أيام حاولت من جديد الاتصال به. قلت لنفسي ربما حصل له شيء طارئ. فرد. وأول كلمة قالها كانت: أين أنت يا ديمة؟ ما أخبارك؟ 
فاستغربت: أين أنا؟ بل أين أنت؟
فاستطرد: يجب أن نلتقي للعشاء يوماً ما
فاستغربت أكثر .. وحتى اليوم لم يخبرني لم لم يأت إلى العشاء الموعود
وطبعاً لم أرتبط ثانية بأي عشاء معه

كان درساً مفيداً جداً لقادم الأيام في فنزويلا

مثلاً كان عندي موعد عند الطبيب. وما أدراك ما الموعد عند الطبيب؟

كتب لي رسالة: تعالي في الحادية عشرة ظهراً
فوافقت لكني أخبرته أني قد أتأخر لأن لدي اجتماع عمل حتى العاشرة والنصف في حي بعيد عن العيادة، في شرقي كاراكاس

وصلت اجتماعي في العاشرة تماماً. لاحظت بعض السحب الناصعة البياض في السماء، لكن الشمس كانت ساطعة

طبعاً الاجتماع بدأ متأخراً لأن صاحبة "الموعد" ادعت أنني لم أؤكد لها الاجتماع! وبالتالي لم ينته حتى الحادية عشرة إلا ربعاً تقريباً، فكتبت للطبيب أبلغه بتأخيري وأني في طريقي

وما أدراك ما الطريق؟
الطريق لولا السيارات في كل مكان كان يمكن أن يستغرق ربع ساعة، لكنه استغرق أكثر من ساعة وثلث

عندما وصلت العيادة في حي يقع غربي كاراكاس تيقنت أن المطر لا ينوي زيارتنا اليوم، فالسماء تبدو أنقى وأكثر زرقة مما كانت في الصباح

حي سانتا مونيكا غربي كاراكاس، في منتصف النهار
سلمت على الموجودين في صالة الانتظار وسألت: هل هناك من ينتظر دوره للدكتور رينيه؟
فرد علي شخص واحد، فسألت من جديد: وهل هناك مريض مع الدكتور الآن؟
فرد الشخص: نعم .. من حوالي ساعة أو أكثر
فقلت لنفسي إن الانتظار لن يطول.. لأن المريض سيخرج قريباً وسيدخل الشخص الآخر ، وبعدها يأتي دوري . حظي سعيد اليوم

بعد ٢٠ دقيقة خرج الدكتور فسلم على كل منا بحرارة ثم قال: أنا جوعان. سأتناول بعض الطعام وأعود

واختفى

المهم أنني دخلت عند الطبيب أخيراً في الساعة الثانية بعد الظهر، أي بعد "موعدي" بثلاث ساعات .. ولم أخرج حتى الثالثة وخمس وعشرين دقيقة

تذكرت تجربتي في أبو ظبي. كنت متأخرة على الموعد مرة واتصلت كي أخبر العيادة فقالوا لي: سندخلك ريثما يتأخر مريض آخر

حسناً. لا بأس عندي فأنا معتادة على الانتظار في فنزويلا. أدخلوني بعد انتظار بسيط لم يتجاوز ٣٠ دقيقة. فاستقبلتني الطبيبة بنظرات مريبة وقالت: موعدك ١٥ دقيقة فقط فكيف تتأخرين ١٠ دقائق؟ خربطت لي كل مواعيد اليوم

شعرت بالإحراج لكني استغربت لهجتها واستغربت أن يكون طول الموعد محدداً بشكل مسبق. حاولت أن أحادثها دون انفعال، لكنها كانت غاضبة وأشعرتني بالفعل أنني في ثكنة عسكرية. ولم أبق معها سوى بضع دقائق لأنني كنت فقط أحتاج إلى توقيعها على طلب فحص طبي من أجل التأمين، وطبعاً دفعت ثمن
الـــ موعد

طبيبي في فنزويلا قبل أن يفحص العلل الجسدية يسأل عن أحوالي وأحوال الأسرة والعمل، والوطن، وكل شيء. وعند الحديث عن مشكلة طبية فهو يدخل في تفاصيل كثيرة ويناقشني في الخيارات والحلول، ويشرح لي فوائد الدواء ومضاره. لديه صبر عجيب وهدوء داخلي مدهش وابتسامة دائمة. فعلاً أفتقد إليه خارج فنزويلا. لكني لا أفتقد أبداً إلى ساعات الانتظار خارج باب عيادته، طبعاً

حي لوس تشاغواراموس، غربي كاراكاس، بعد الساعة الثالثة
خرجت من مبنى العيادة لأفاجأ بسحب رمادية ماكرة تنتظرني، وتطرد السحب البيضاء .. يبدو أن المطر غير رأيه وأنا في الداخل، وقد يأتي. أنا أحب المطر طبعاً وأستمتع به، لكن الزحام يزداد كثيراً أثناء المطر

وفعلاً في الرابعة وسبع وعشرين دقيقة انهمرت أولى قطرات المطر. كنت لا أزال أقود سيارتي وسط الزحام مع أن الزحام عادة يشتد بعيد الخامسة وليس قبلها. لكن في كاراكاس لا أحد يفهم مزاجية الزحام. لا يوجد منطق لتفسيره ولا يوجد حتى "موعد" له

جادة فرانسيسكو دي ميراندا شرقي كاراكاس، في الرابعة والنصف
اشتد الزحام مع المطر، وخفت الضوء.. لا أعرف حقاً لم يحصل ذلك. هل لأن الناس يهرعون إلى الحافلات وسيارات الأجرة؟ ربما

الخامسة والربع بعد الظهر، بعد حمام مداري
لم أصل المكتب إلا حوالي الخامسة والربع. كانت الدنيا قد انغسلت بالكامل، وبدت لي كاراكاس فتاة للتو خرجت من حمام السوق، ندية جميلة متجددة، بلا هموم. كان المطر في آخر قطراته عندما دخلت المكتب، وكان الضوء قد عاد إلى الدنيا، نقياً هو الآخر

موعد الطبيب أكل مني إذاً جل نهاري. وهو أمر طبيعي وعادي في كاراكاس، لكني شعرت بالرضى عن نتائجه، وأحببت تجربة المطر الجميلة أثناء عودتي

من يعيش هنا عليه أن يتعلم أنه ليس ثمة "موعد" ثابت هنا. تذكرت ما روته لي مرة فتاة فنزويلية من أنها لا تواعد أبداً رجلاً واحداً في أمسية واحدة، كي لا تصاب بخيبة الأمل عندما يخلف معها الــ "موعد" ولا يرد على الهاتف، بل تواعد اثنين أو ثلاثة، حتى ينجح واحد من الـ مواعيد .. وإن وفى أكثر من واحد بالموعد، فهي تلغي موعداً أو موعدين في اللحظة الأخيرة وتحتفظ بواحد فقط 

في بلاد بلا موعد، أنت دائماً على موعد ما مع الزحام ومع المطر، ولست على يقين من أي موعد مع البشر.. وكم من البشر يلغي موعدك بحجة ذلك المطر


اقرأ يوميات فنزويلية أخرى

23 Jul 2013

يوميات فنزويلية : دمشق


زارني صديق اسباني أعرفه من سنوات طويلة ، ومعه رفيقته الفنزويلية
بعد تبادل الأخبار قال لها: ديمة وعدتني بأن أزور معها دمشق، مدينتها، مسقط رأسها، هي ترعرت هناك

وأنا صامتة

ابتسمت الفتاة الفنزويلية ابتسامة ساحرة من القلب .. وقالت له: حبيبي هل يمكن أن آتي معك؟

وأنا ما زلت صامتة

فقال: طبعاً .. هي من أقدم مدن الدنيا .. دائماً كانت في بالي أريد زيارتها

 وأنا ما زلت صامتة

تحمست الفتاة الفنزويلية: علينا أن نذهب هناك إذاً  

وأنا ما زلت صامتة

فقال هو: أتخيل أن الوضع صعب هناك الآن لكن ربما عندما تهدأ الأوضاع. كانت هناك رحلة مباشرة بين كاراكاس ودمشق على الخطوط الفنزويلية أو الإيرانية، وكانت رخيصة، لكنها توقفت قبل زمن بسبب الظروف.... أليس كذلك يا ديمة؟ 

وأنا ما زلت صامتة 

فأكمل: متى تظنين يا ديمة أن الأوضاع يمكن أن تهدأ؟ 

وأنا ما زلت صامتة ... حتى نطقت الدموع بلا كلمات 

بات الاثنان في حالة صدمة لا يفهمان ما جرى 

ساد صمت بطيء وسط البكاء .. وهما ينظران إلي بحيرة وعجز

وفي أول فرصة وسط الغصة قلتُ لهما: لقد فات الأوان .. فات الأوان


كاراكاس

الأحد ٧ يوليو تموز ٢٠١٣



اقرأ يوميات فنزويلية أخرى

22 Jul 2013

يوميات فنزويلية : وشدت الشقراء يدها !

كنت قد كتبت أمس عن الطقس اللطيف في كاراكاس والذي لا يشعر الإنسان فيه لا بعطش ولا بإرهاق. كانت الأيام الماضية أياماً غائمة وماطرة، ومنعشة بالفعل. مناسبة جداً للصيام. لكني وكأني حسدت نفسي بما كتبت فجاء اليوم مختلفاً

كان عندي قضاء معاملات رسمية في البلدية. تركت سيارتي في مرآب المكتب (الآمن والمحروس) وقررت أن أستقل سيارة أجرة كي أتفادى عناء البحث عن مكان أترك فيه سيارتي هناك، وهو أمر قد يتطلب مني بعض الوقت كي أجد مكاناً، ووقتاً أطول كي أجد مكاناً آمناً

تاكسي تاكسي ، صرخت وأنا أمشي من المبنى نحو الشارع

لاحظت فوراً أنه ليس سيارة أجرة رسمية. بمعنى أنه فقط شخص عنده
 سيارة ووضع ملصقة على الزجاج الأمامي للسيارة كتب عليها كلمة تاكسي، ووضع علامة بلاستيكية صغيرة بيضاء اللون فوق سقف السيارة مكتوب عليها تاكسي. لكنه غير مرخص ولا يعمل لدى أي من خطوط التاكسي المعتمدة في المدينة. وبالتالي ليس هناك سعر ثابت عنده، علماً بأنه لا يوجد عداد هنا في سيارات الأجرة

اقتربت من شباك الراكب على يمين السائق وقلت له العنوان
فقال : ماشي
فقلت : كم؟
قال : ٨٠ بوليفار
قلت : غالي جداً ، لا أستطيع
قال : حسناً ادفعي ٧٠ بوليفار

في بلد يعتبر وقود السيارات فيه تقريباً مجانياً، ينبغي أن تكون سيارات الأجرة رخيصة جداً. لكنها ليست كذلك بسبب التضخم المستمر في كل شيء. رحلتي مع التاكسي كانت مسافتها تقريباً ٣ كم وكلفت حسب سعر الصرف الرسمي ١١ دولاراً أمريكياً، وهو مبلغ معتبر بالنسبة للفنزويليين ذوي الدخل المتدني أو المتوسط، خاصة إن قارنا السعر بسعر المواصلات العامة التي قد تكلف ٥ بوليفار بالحافلة، وأقل بالمترو. لكن المترو لا يصل إلى كل نواحي المدينة

كانت البلدية مليئة بالمراجعين، كل يصطف في طابوره. تمنيت أن يصادفني حظ جيد كما في المرة الماضية عندما أنهيت ورقتي في أقل من ربع ساعة. ليتها تكرر تلك المعجزة في كل مرة! مررت من أمام صالة  الزواج (المدني طبعاً). كانت هناك أسرة تلتقط صورة سعيدة، ملؤها الضحكات. دائماً تستوقفني تلك المشاهدة وسط زحام المعاملات الرسمية، خاصة أن كثيرين مثلي يتفاعلون مع الحدث وقد يصفقون ويهللون للعروسين

زواج مدني التقطت صورته في زيارة سابقة للبلدية قبل أيام
كانت الوثيقة التي سأوقع عليها في البلدية مليئة بمعلومات غير دقيقة. رفضت الموظفة تصحيحها على أساس أنها موجودة هكذا في السجلات. دخلت في جدل طويل انتهى بإرسالي إلى جهة رسمية أخرى على بعد شارعين أو ثلاثة. مشيت بسرعة كي أنتهي بسرعة .. وعندها انتبهت إلى الحر


لبن للبيع Se vende Yogurt
لفتت نظري سيدة تمشي في الشارع وتجر وراءها عربة صغيرة مكتوب عليها "لبن للبيع" (وهنا أقصد باللبن ما يدعى في مصر بالزبادي، وليس الحليب). توقفت عندها. كانت سمراء البشرة تنطق أصولها الإفريقية في وجهها جمالاً. سألتها عما تبيع، فقالت إنه لبن مثلج تصنعه في المنزل بيدها، وتطعِّمه بفواكه: فراولة، مانغا، مشمش، الخ

ومن باب الفضول سألتُ:  كم تكلف الكاسة الواحدة؟
أجابتْ بسرعة : ١٠ بوليفارات.. هل تريدين، مامي؟ 

مامي هي كلمة للتتحبب بالعامية الفنزويلية، مستخرجة من كلمة ماما، وتستخدم عادة لمخاطبة النساء، وعادة يستخدمها عامة الشعب

ترددتُ : هل ستذوب بسرعة؟؟ هل يمكن أن آكلها لاحقاً؟

قلبتْ حقيبة ظهرها بمهارة وأخرجت من إحدى جيوبها دون أن تنظر كيساً بلاستيكياً صغيراً وملعقة بلاستيكية، وقالت: اختاري

كل حرف يرمز إلى أول حرف من اسم الفاكهة

أُحرجت منها. فاشتريت كاسة بطعم المشمش، واستأذنتها بالتصوير

سألتُها بعفوية: هل تبيعين الكثير؟
فقالت وهي تهم بالانصراف لإكمال مسيرها: أبيع ١٥ كاسة في اليوم تقريباً، يعني حسب التوفيق. أشرف لي من المكوث بلا عمل. وأنا أحب إعداد اللبن 

حسبتها في رأسي: ١٥ كاسة يعني ١٥٠ بوليفار في اليوم الواحد. أي ما يعادل ٢٤ دولاراً تقريباً على سعر الصرف الرسمي، لكن ٥ دولارات فقط على سعر السوق السوداء الذي تحسب على أساسه المواد المستوردة، أي أغلب البضائع هنا

شكرتها لأنها سمحت لي بالتصوير وتمنيت لها حظاً موفقاً. هي تأتي كل يوم هنا من الطرف الآخر من المدينة، من مدينة صفيح قرب القصر الرئاسي، اسمها كاتيا

انتبهت حولي إلى كمية الأشخاص - السمر - الذين يبيعون في الشوارع مثلها: الماء، المثلجات، الحلويات، كل شيء تقريباً. هو ما يعرف هنا بالاقتصاد غير الرسمي. كل هؤلاء ليست لديهم أي سجلات عمل في أي مكان

تاكسي تاكسي

بسرعة وجدت سيارة أجرة تعيدني إلى المكتب

أستمتع بالحديث بعفوية إلى الجميع هنا. قلت لسائق التاكسي: الدنيا حر اليوم أليس كذلك؟ أم أنا وحدي أشعر بذلك؟
فأجاب: حر بالفعل سينيورا.. لقد شد الأشقر يده، كما يقال عندنا محلياً

لم أسمع بهذه المقولة من قبل، وهو استخدم كلمة فنزويلية بحتة (أشقر) تعلمتها هنا، تختلف عن كلمة أشقر بالاسبانية في اسبانيا أو بلدان أخرى في القارة
Apretó el catire

 سألته: ومن يكون الأشقر يا ترى، سينيور؟

فأجاب بابتسامة وسرور كمن يحلو له الشرح وهو ينظر إلي عبر المرآة: بعد أيام من المطر الذي يغسل كل الغبار وكل الشوائب من الجو، يجد الأشقر فرصة ليشد يده علينا لأن المجال مفتوح أمامه.. أفهمتِ؟

وصار يضحك 

أدركت حينها أن الشمس هي المقصود بـ"الأشقر"، طبعاً .. فهي اسم مذكر بالاسبانية 
عادت الزرقة إلى السماء، وعاد إلي الجبل من السحب، وجاءنا الحر

تلك الشقراء شدت يدها علينا بالفعل، فقد وصلتُ المكتب عطشى جداً، وبيدي اللبن المثلج وقد بات أقرب إلى اللبن السائل. لكني أدرك أنها مهما شدت يدها في كاراكاس فلن تشدها كما تشدها عليكم، قراء الوطن العربي الساخن



اقرأ أيضاً
  يوميات فنزويلية : كم ساعة تصومون؟
يوميات فنزويلية : حدود الدنيا



21 Jul 2013

يوميات فنزويلية: كم ساعة تصومون؟


عندما تكون في بلد "غريب"، بمعنى أنه في الغربة وليس من البلدان التي ينتشر فيها المغتربون بكثرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، فإن الناس تسألك كثيراً عن أجواء رمضان وأوقات الصيام وما إلى ذلك

الصيام في فنزويلا يبدأ مع طلوع الفجر في الساعة الرابعة والنصف، وينتهي قبيل الساعة السادسة والنصف، أي ١٤ ساعة تقريباً. لكن الصراحة أن الصيام هنا لا يقارن إطلاقاً بالصيام في البلدان العربية، لا من ناحية الطقس - خاصة في موسم الصيف - ولا من نواح أخرى

الطقس هنا لطيف للغاية. درجة الحرارة في العشرينات، ليس فقط الآن، وإنما طوال العام. أحياناً تسطع الشمس وأحياناً يسود الغيم وأحياناً يأتي المطر. وفي كل الأحوال فإن الإنسان لا يشعر بالعطش أو الإرهاق من الطقس. لا توجد لا رطوبة عالية ولا جفاف. وهنا أتحدث عن العاصمة كاراكاس. في مناطق أخرى في فنزويلا هناك مناخ مختلف يتراوح من الحر الشديد الشبيه بحر الخليج، والبرد الشديد في أعالي الجبال الشبيه ببرد أوروبا الشمالية


خمس ساعات صيام؟

كثيرون يظنون أن فنزويلا تحت خط الاستواء. وهو اعتقاد خاطئ. فنزويلا فوق

خط الاستواء وبالتالي فهي حالياً في فصل الصيف (ذي الأمطار الموسمية)  بعكس الأرجنتين حيث فصل الشتاء البارد، وهي التي يستشهد بها كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي كـ "جنة الصائم" لأن ساعات الصيام فيها قليلة جداً



الناس تبادلت هذا الرسم البياني عبر الانترنت، لا أعرف من أعده ولم أنظر في دقته بالنسبة للبلدان الأخرى لكنه غير صحيح بالنسبة للأرجنتين. فالصيام في الأرجنتين يمتد من الساعة السادسة والنصف صباحاً تقريباً إلى الساعة السادسة مساءً تقريباً. أي أقل من ١٢ ساعة. وهو وقت أقصر من باقي الدول، لكنها ليست ٥ أو ٦ ساعات كما يدعي البعض


والأرجنتين تبعد عن فنزويلا مسافات شاسعة. كثيرون ينظرون إلى أمريكا الجنوبية على أساس أنها منطقة تتقارب فيها المسافات. فيظنون أن كوني في فنزويلا لا يفرق عن كوني في الأرجنتين مثلاً، على الأقل من ناحية ساعات الصيام. لكن الرحلة بالطائرة - إن كانت مباشرة - بين كاراكاس، عاصمة فنزويلا، وبوينوس أيريس، عاصمة الأرجنتين، تدوم حوالي سبع ساعات، جنوباً. أي نفس طول الرحلة من دبي إلى باريس مثلاً



مجتمع يعشق الملذات

الصعب في الصيام هنا هو أن المجتمع لديه عادات وطباع بعيدة كل البعد عن فكر رمضان والفكر الإسلامي بشكل عام. فإضافة إلى أن الجميع يتناول الطعام والشراب بأنواعه أمامك طوال النهار، يمكن أن تكون في سيارتك مثلاً ويصادفك إعلان كبير في الشارع عليه نساء شبه عاريات بالكامل، ورجال أيضاً. حصلت معي أمس. كان الإعلان عن مسرحية. وفي كل مكان ترى نساء يرتدين من الملابس القليل جداً ويبرزن المفاتن بشكل فاضح. وقد يصادفك في الطريق عشيقان يقبلان بعضهما البعض بشهوانية. وطبعاً الناس تدعوك إلى العشاء أو إلى حفل استقبال أو حفل من أي نوع كان فتقدم لك مشروبات كحولية ولحم الخنزير، ولا يفهم سوى قليلين ما هذا الصيام الذي تشير إليه. لكن الجميل هو أنهم حين يفهمون يقدرون الأمر ويحترمونه كثيراً، ويبدون اهتماماً به وفضولاً كبيراً لمعرفة المزيد. لكنهم لا يستوعبون جانب التعري والملابس الفاضحة مثلاً. وعلى أية حال هم يرون المسلمين الصائمين ككائنات خارقة لا يفهمون كيف تتحمل الجوع والعطش، ناهيك عن أشياء أخرى قد يصعب عليهم ثقافياً فهم معنى الامتناع عنها

ليلة السبت كانت هناك حفلة عيد ميلاد في الجوار. حفلات عيد الميلاد هنا تشبه الأعراس عندنا لأنها حفلات ضخمة يدعى إليها عدد كبير من الأشخاص، خاصة عندما يكون المحتفى به طفلاً. فيتم تجهيز صالة بكافة أنواع الترفيه والتسلية للكبار والصغار من موسيقى قد تكون حية ومهرجين وعروض ومسابقات وألعاب وأكل وشرب تكلف مبالغ باهظة طبعاً لكن الناس هنا تحب الحياة وتحب المتعة وتصرف كل ما لديها من أجل ليلة سعادة، على مبدأ: والله بيفرجها بُـكرا! لم أعرف موقع حفلة عيد الميلاد بالتحديد لكنها كانت صاخبة للغاية تملأ كل الجوار بأغاني الريغيتون والسالسا والميرينغي، وصوت مقدم الحفل، فتشعر بأن الطبول تدق في منزلك. وبدلاً من أجواء رمضان تشعر بأنك في مرقص كبير مفتوح، مع أصداء صوت حفلة أخرى في جوار أبعد


أين العرب؟
  
نعم في فنزويلا عدد كبير من المتحدرين من أصل عربي، يقدر عددهم بأكثر من مليون، لكن نسبة كبيرة منهم مسيحيون. وكثير منهم لا يقطن العاصمة كاراكاس

أنا أقطن في حي ينتشر فيه اليهود، وبجانب منزلي هناك كنيسان (أحدهما أشكيناز والآخر سفاردي) والطريف أن بعض جيراني اليهود يتحدث العربية، فهم من أصول مغربية وتونسية وسورية، ويعرفون عن صيام رمضان أكثر مما يعرف الفنزويلي العادي، وعادة ما يهنئوني بعيد الفطر

بالمقارنة مع أماكن أخرى عشت فيها، مثل هونغ كونغ، أشعر بأن فنزويلا رغم كل شيء أقل غربة بالنسبة للمسلم بسبب وجود الملحمة الإسلامية على الأقل وبعض المحال التي تبيع ما يلزم لإعداد أطباق عربية، وبسبب تسامح الناس  الكبير مع أي معتقد كان. فالمسلم هنا يتمتع بحرية تامة لممارسة طقوس دينه، ولا أحد ينظر إليه أو يعامله بطريقة مختلفة لأنه يرتدي لباساً مختلفاً أو يصلي أو يصوم. هذه فعلاً بلاد حرية ترحب بأي كان بدون أحكام مسبقة، وعلى المسلم أن يتحمل حريتها التي يستفيد هو منها


مسجد كاراكاس

مسجد كاراكاس الكبير معلم من معالم العاصمة الفنزويلية

مسجد كاراكاس الكبير صرح جميل كان أكبر جامع في القارة لحين بناء مسجد أكبر منه في بوينوس أيريس بالأرجنتين. ويقع في غربي كاراكاس في منطقة ليست آمنة، خاصة ليلاً. أنا هناك لا أترك سيارتي مثلاً في الشارع بسبب خطر السرقة، وهو خطر يتعرض له من يمشي على الأقدام أيضاً. فأتخيل أن كثيرين قد لا يرتادون المسجد بسبب هذه الظروف، علماً أن ازدحام السير هو أيضاً عائق للوصول لكنه حالياً أخف من باقي فترات العام

في الجامع هناك دائماً أسر عربية لكن هناك أيضاً عدد كبير من غير العرب، مثل الأمريكيين اللاتينيين وجنسيات من جميع أنحاء العالم، وقد لاحظت أن بعض العرب يتغيرون في رمضان، فيكونون فنزويلي الطباع والأخلاق طوال العام، ويصبحون أتقياء فجأة في رمضان


هناك في فنزويلا بضعة مساجد أخرى أصغر من المسجد الكبير، في مدن أخرى. كان هناك مركز إسلامي أيضاً فيه مسجد صغير في حي أبعد غرباً اسمه إل باراييسو، أو الجنة، لكني لم أزره من فترة طويلة، أتوقع أنه ما زال موجوداً

طبعاً لا يوجد هنا مدفع يُضرب ولا آذان يُسمع، إلا داخل الجامع. وإن لم تبذل جهداً للاجتماع بأفراد الجالية في الجامع أو في المركز الإسلامي أو في المنازل فقد لا تصادف أي صائم مثلك طوال الشهر الفضيل

أترككم مع تقرير قديم أعددته خلال رمضان يعطيكم فكرة أوسع عن الموضوع

20 Jul 2013

يوميات فنزويلية: حدود الدنيا


كاراكاس
السبت ٢٠ يوليو تموز ٢٠١٣
الطقس: غائم، بين ٢٢ و٢٥ درجة مئوية


الطريق إلى مملكة الغيم


بعد مطر أمس بقيت بداخلي تلك الأحاسيس التي يولدها جو كاراكاس الماطر فاستيقظت رومنسية المزاج، أسترق السمع إلى ريح تداعب الكون بحنان، وعلى بالي قصيدة قصيرة جداً للشاعر التشيلي بابلو نيرودا لم يمنعني وجود النجار والحداد - بضجيجهما - في المنزل من البحث عنها



Nace 

Yo aquí vine a los límites
en donde no hay que decir nada,
todo se aprende con tiempo y océano,
y volvía la luna, 
sus líneas plateadas
y cada vez se rompía la sombra
con un golpe de ola
y cada día en el balcón del mar
abre las alas, nace el fuego
y todo sigue azul como mañana

Pablo Neruda


أعرف القصيدة من عشر سنوات وهي موجودة لدي في مجموعة أشعار لبابلو نيرودا باللغتين الاسبانية والانكليزية. طبعاً نيرودا من تشيلي ولم يكتب - على حسب علمي - إلا بالاسبانية. المجموعة تعرض كل قصيدة ومقابلها ترجمة إلى الانكليزية، ومقابلها لوحة تشكيلية رسمت خصيصاً للقصيدة. الجميل في المجموعة أنه تم اختيار قصائد معينة لنيرودا تتحدث كلها عن البحر. لطالما تساءلت بحسرة لم لا ننشر الأشعار العربية كما تنشر أمريكا اللاتينية أشعارها في كتب أنيقة فنية، فائقة الجمال، تليق بالنصوص البديعة. في معارض الكتاب التي زرتها في الخليج مؤخراً كنت أجد المجموعات الشعرية العربية في كتب نحيلة صغيرة بورق بخس. ما زالت تطن في أذني جملة قالها لي ناشر في معرض الشارقة: إيه ما حدا بيشتري شعر، نشر الشعر بس مشان الأنا تبع الشاعر
!!

ما علينا 

إليكم ترجمة القصيدة كما وردت في الكتاب


ُتُولَد


 ها أنا أتيتُ إلى حدودِ الدنيا
حيث لا شيئاً يحتاج أن يُقال
كلُ شيء يُتَعلَّمُ عبر الزمن والمحيط
ويعود القمر
خطوطه فضية
وفي كل مرة ينكسر الظل
بضربة موجة
وكل يوم على شرفة البحر
يفتح الأجنحة، تولد النار
فيبقى كل شيء أزرق كما في الصباح

بابلو نيرودا


أعشق فكرة "حدود الدنيا". أمريكا اللاتينية تشعرك بالفعل بأنك وصلت حدود الدنيا. كنت أتخيلها حدود الدنيا قبل أن أصلها. شعرت بنفس الشيء عندما زرت نيوزيلاندا، هناك في جنوب الجنوب، حيث تشعر بأن العالم يصل إلى نهاية هي البداية. وأظن أن الشيء نفسه شعر به من أطلقوا اسم "نهاية الأرض" على أبعد نقطة غرباً في اسبانيا وبالتحديد في غاليثيا، وهي 
Finisterre
فقد ظنوا حينها أنه لا يوجد أي شيء بعد البحر .. حتى وصلوا أمريكا واكتشفوا أن ثمة طرفاً آخر للمحيط الأطلسي، حيث أنا الآن، حيث "نهاية الأرض". لكن الاسم بقي هناك حتى اليوم

مع كل هطول مطر أشعر بأن الدنيا تبدأ من جديد، مغسولة الروح والبدن. تماماً كزرقة الصباح عندما يعطينا فرصة جديدة ممثلة بيوم جديد، كي نحقق ما نريد، أو نعيش ما نريد، أو نرى من نحب، أو أن نحب

كاراكاس ليست مدينة ساحلية. أنا لا أعيش قرب البحر هنا، بل يفصل بيني وبين بحر الكاريبي جبل ضخم أراه كل يوم من منزلي ومن المكتب ومن شوارع المدينة. البحر يبعد عن المدينة ما يقارب ٤٥ دقيقة فقط. أنا أقطن إذاً بجوار الجبل، وهو المرسال بيني وبين البحر. لدي شرفة الجبل التي تطل على شرفة البحر، وأشعر بالفعل بوجود شرفة البحر، هناك، وبولادة تلك النار وراء الجبل وصعودها شيئاً فشيئاً كل فجر وسط جوقة العصافير

كم أشعر أنني وقفت مع نيرودا في نفس البقعة، في نفس اللحظة، ربما في تشيلي نفسها 

لاحظوا أن ترجمتي العربية للقصيدة - من الاسبانية مباشرة - قد تختلف في بعض الأشياء عن الترجمة الانكليزية. قد أتفق أو لا أتفق مع التعديلات التي أجريت على الكلمات بالانكليزية، فبعضها بالفعل يناسب اللغة الانكليزية ويعطي المعنى بعداً آخر وربما يجعله أقرب إلى الصورة التي يريد رسمها الشاعر، لكنها لا تناسب بالضرورة اللغة العربية. ومن هنا حرصي دائماً، في النصوص الأدبية بشكل خاص، على ألا تصلنا الترجمة العربية عبر لغة ثالثة، مع ملاحظة استحالة نقل بعض الصيغ أو الأفكار بشكل مخلص وأمين. كم صدق من قال  بالإيطالية: المترجم خائن
Traduttore, traditore 

أرجو أن تكون القصيدة قد أعجبتكم

هل أنتمي إلى عالم السماء أم إلى عالم الأرض؟ لا حدود للدنيا 


17 Jul 2013

Samer Issawi


My name is Samer
I am alive
I am still alive
I will forever be alive
Just like my Falastin

My name is Samer
I am strong
I am stronger than you think
Forty eight kilos and counting
Downwards
Just like my Falastin

My name is Samer
I don't need food
I don't need water
I eat dignity
I drink freedom
They taste better than life

My name is Samer
I may die
But not my name
You may burry my body
But like olive trees I will grow back
Everywhere in Falastin

My name is Samer
I have two mothers
One is suffering for I might die
She's called: Mama.
The other, I might die for
She's called: Falastin



لا أحبك

اسمتع للنص مسجلاً بصوتي على موسيقى أستور بيازولا




أنا لا أحبك
فاتركني وحدي
اتركني
لا أحبك أنت
ولا أحب غيرك
فلا تضغط ولا تطلب
أطفئ شموعك الليلة
ولا تنتظرني
فأنا ككل ليلة
لا أحبك

نعم، اشتقت إليك
قليلاً
أو كثيراً
لا أعرف كيف أعيش دونك
يا ترى، هل أحبك قليلاً؟
أم أحبك كثيراً؟
لست أدري
لكني سبق وقلت لك
إني لا أحبك

أو ربما أحببتك
فقط في لحظات حبي لك
أحببتك كثيراً جداً
أحببتك من كل قلبي
في كل لحظات حبي لك
لكني في واقع الأمر
لا أحبك

كلا، أرجوك لا تسأل
متى تأتي تلك اللحظات
ومتى لا تأتي
لماذا تأتي
ولماذا لا تأتي
أحياناً هي تأتي
وأحياناً لا تأتي
لكنها عندما تأتي
فأنا بكل تأكيد أحبك

أحب حبك لي
أحب تلك النظرات
أحب تلك البسمات
أحب تلك الكلمات
أحب تلك اللحظات
التي أحبك فيها
أحبها كلها
ولن أسمح لامرأة أخرى
أن تعرفَها كما عرفتُها
كما أعرفها
مع أني لا أحبك

يخنقني وجودك
يذوبني عشقك
تحرقني شموعك
يسعدني هيامك
تقتلني نظراتك
ثم يحييني شوقك
كم قلت لك
لا أحبك
لا أحبك
أنا لا أحبك