المقال نشر بتاريخ ١٧ مايو أيار ٢٠١٣ في صحيفة القدس العربي
أصبحت أنظر إلى نفسي في المرآة فأحتار : هل أنا أنا؟ هل الانعكاس في المرأة انعكاس لي أنا؟ هل أنا مجسم؟ من أنا؟
هذا الكلام قاله لي مجازاً مواطن عربي من شباب إحدى الثورات العربية تعبيراً عن حالة الضياع التي يعيشها كثيرون - أو ربما يعيشها الجميع - أمام فوضى المعلومات التي أصبحنا نتعرض إليها كل يوم.
شخصياً على المستوى المهني أصبحت أشك في كل ما يُكتب وكل ما يُقال وكل ما يُسمع وكل ما يشاهَد، ليس فقط حول الأحداث العربية وإنما العالمية أيضاً. ولعل زخم المقالات التي كتبت عندما توفي الرئيس الفنزويلي أوغو تشافس مؤخراً رسخَّت لدي هذه الشكوك لأن فنزويلا حقل عملي منذ قرابة عقد من الزمن وأعرف عنها ما لا يعرفه صحفيون لم يقيموا ويعملوا فيها. كلما قرأت مقالة عن تشافس وفنزويلا وجدت فيها من أنصاف الحقائق والحقائق المغلوطة واللا حقائق ما يجعلني أشك بشكل دائم في ما هي فعلاً حقائق. ولا أتحدث هنا عن الصحافة العربية بشكل خاص بل عن الصحافة العالمية بأكملها والتي أبدعت في إدخال ما طاب لها ولمخيلتها أحياناً من تواريخ وأسماء وأحداث حول فنزويلا قدمتها على أنها حقائق لكنها لم تكن كذلك على الإطلاق
لكن لنبق في المنطقة العربية ولنعد إلى الوراء قليلاً. سنجد أن مصادر الأخبار في عام ٢٠٠٥ مثلاً كانت واضحة. كانت الحقيقة في أغلب الوقت حقيقة واحدة – أو هكذا بدا لنا على الأقل. كانت الحقيقة "حقيقة"، وكانت مقدسة. كانت مصادرنا الصحفية واضحة ومعروفة، ألا وهي وكالات الأنباء المحلية والعالمية وتصريحات المسؤولين والمؤتمرات الصحفية والبيانات الرسمية والأحداث على الأرض وبعض المواقع الالكترونية. كان الخبر خبراً وكان يتمتع بقدسية ما. كان يمكن نفيه أو تكذيبه لكن في أغلب الوقت كنا نعرف أنه خبر حقيقي.
لكن منذ عام ٢٠١١ بدأت قدسية الخبر تتهاوى ودخلنا مرحلة الخبر المضاد، والخبر المعاكس، والخبر المفبرك، والخبر الإشاعة، والخبر بالون الاختبار، والخبر الـ "لا خبر" ! كل ذلك ظهر بعد تحولات جمة طرأت على الإعلام منها
أولاً - ظهور مصادر جديدة عبر الانترنت لا يمكن حصرها ولا التحقق منها كما كانت الحال مع وكالات الأنباء العالمية. كان الصحفي مثلاً يعول على أن ورود خبر ما في وكالتي أنباء عالميتين يعني أنه صحيح. الآن يمكن أن يصدر الخبر عن موقع الكتروني وينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتتناقله نفس وكالات الأنباء التي كنا نعتمد عليها، ثم يثبت بأن الموقع نفسه وهمي وليست لديه أي مصداقية. وحتى عندما يأتي الخبر عبر مادة فلمية المفروض أننا نرى وقائعها بأعيننا، لم نعد قادرين على الحكم عليها بشكل قاطع وأكيد لأنها قد تكون قديمة أو متلاعب بها أو فخاً من نظام ما أو من معارضة ما أو من جهة ما. والمشكلة أن وسائل الإعلام لا تستطيع في الوقت ذاته تجاهل هذه المواد التي تنتشر بكمية هائلة عبر اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي والمدونات لأنها قد تبدو بمظهر المقصر الذي لا يريد نقل الأحداث من مناطق وظروف لا يمكن ممارسة الصحافة فيها بشكل طبيعي، مثل سوريا
ثانياً - ظهور وسائل جديدة جعلت من المتلقي مرسلاً أيضاً، يتحول من مجرد متلقٍ سلبي للأخبار إلى مرسل إيجابي لديه في هاتف ذكي صغير الحجم كل ما يحتاج إليه كي يؤدي دور الصحفي البديل، في غياب الصحفي المحترف، فاختلطت الأدوار بين متلق ومرسل، وأصبح المتلقي يشعر بأن لديه سلطة على المرسل تسمح له بالتشكيك في كل شيء والتدخل في أي لحظة عبر وسائل التواصل المتاحة له، مع أنه ليس صحفياً حرفياً وقد لا يمتلك قدرات الصحفي المطلوبة لأداء العمل الصحفي بمهنية. وأحياناً هو يعطي لنفسه حق التلاعب بالمعلومات والصور كي يقحم فكرته أو وجهة نظره
ثالثاً - انتشار التعددية وحرية التعبير دون أي نشر لثقافة التعددية وثقافة الحرية، مما يفسح المجال لكثير من الانفلات والفوضى في ممارسة حرية التعبير ليس فقط في فكر المتلقي والصحفي البديل بل أيضاً على مستوى الصحفيين المحترفين الذين أصبحت لديهم توجهات سياسية يعبرون عنها بشكل صريح حتى لو أثر ذلك على تغطياتهم الصحفية. وبعضهم يبدو متشدداً في رفضه ونفوره من الرأي الآخر أو الآراء المغايرة لرأيه بشكل يجعله يفقد مصداقيته الصحفية أمام المتلقي
رابعاً - انتشار جو من المنافسة الإنتاجية يجعل وسائل الإعلام تشعر بأنها دائماً تحت ضغط الخروج بشيء جديد، فعليها دائماً أن تقدم عناوين ساخنة وتبحث عن مواضيع ساخنة، وتكون سباقة في نشر الأخبار مهما كان الثمن. ولعل أحد مسببات هذه الحالة هو عولمة الإعلام إذ أصبح أي خبر ينشر في أي مكان عبر أي وسيلة بأي لغة ينتشر في كل مكان آخر، فأصبح التنافس مفتوحاً على الملأ بين الجميع في أنحاء العالم
يجب أن نقر بأننا نمر بأزمة مصداقية تعاني منها الصحافة تجعل الصحافة كلها في حالة أزمة. وللخروج من الأزمة لا بد من الآتي
أولاً - العودة إلى الحقائق والتمسك بها والتحقق منها مراراً وتكراراً وعدم الوقوع في فخ النقل والتناقل السريع للمعلومات عبر النسخ واللصق وعدم الوقوع في فخ أخذ الحقائق من طرف واحد ومن وجهة نظر معينة. على الصحفي أن يتعلم أن أساس مصداقيته وأخلاقياته المهنية هي الحقائق
ثانياً - إيجاد آليات جديدة للتحقق بشكل مهني من المصادر الجديدة بحيث تستخدم التكنولوجيا لصالح الصحفي ولا تضعه رهينة لما تقدمه التكنولوجيا. مثلاً ينبغي أن يتعلم كل صحفي كيفية التحقق من المواقع الاكترونية وينبغي أن يكون على اطلاع على مواقع التواصل الاجتماعي وأهم الشخصيات ضمن المواطنين في المجتمع المدني التي تأتي بالأخبار كي يحكم على مصداقية أخبارها عبر الخبرة المتراكمة
ثالثاً - الفصل بين الأيديولوجيات والانتماءات والميول الشخصية من جهة وأخلاقيات المهنة الصحفية من جهة أخرى
رابعاً - الاعتراف بأن الموضوعية وهم، وبأن الحيادية حلم طوباوي، والتمسك بدلاً عنهما بالأمانة المهنية وبأخلاقيات الصحافة. فالموضوعية التي طالما قيل لنا إننا نمارسها تختلف من صحفي لآخر مع أنهما يمكن أن يكونا في نفس المكان ونفس الزمان يغطيان نفس الحدث لأن لكل منهما فهماً للواقع يختلف عن الآخر، فكل إنسان لديه تكوينه وفكره واستيعابه. ولا يوجد صحفيون معدون مسبقاً في مصنع واحد يرون الأشياء بنفس العين ويفهمونها بنفس الفكر. فحتى عندما نسعى بكل صدق إلى الموضوعية فهي ليست ممكنة مئة في المئة وإنما جزئياً. أما الحيادية فهي بالفعل أمر غير ممكن تحقيقه، فمجرد اختيار المفردات والصفات في الجملة يؤثر على انطباع المتلقي عن الموضوع أو الشخصية
خامساً - إعادة النظر في تعريف الصحفي. هل الصحفي البديل أو ما يعرف بالصحفي المواطن صحفي أيضاً؟
سادساً - التعامل مع واقع المتلقي الذي يتحول إلى مرسل أحياناً بشكل مكمل ورادف للعمل الصحفي وليس كأنها معركة بين الصحافة التقليدية وصحافة المواطن
أتساءل : لو أن الصحافة أدت دورها على أكمل وجه هل كان للمواطنين أن يقحموا أنفسهم في عالم الصحافة والإعلام؟ في بعض الحالات كان القصور آتياً من تغييب الإعلام بسبب الرقابة والتعتيم من قبل أنظمة قمعية استبدادية. لكن في حالات أخرى كان القصور هو قصور من وسائل الإعلام، وأعطي مثالاً اسبانيا التي شعر فيها المتظاهرون بأن وسائل الإعلام تآمرت ضدهم ولم تغط قمع مظاهراتهم لأنها جزء من الهيكل الاقتصادي-السياسي الذي يتظاهرون ضده، وعندها قرروا اللجوء إلى تويتر وفيسبوك ويوتيوب على نسق شباب الثورات العربية
مستقبلاً أظن أن التزاوج بين وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الحديثة لا بد أن يثمر عن صحافة أفضل بحيث تكملان بعضهما البعض، وبحيث يستعيد الصحفي خنادقه فيرفده الصحفي المواطن عند الحاجة بدلاً من أن ينوب عنه، بعد أن يستعيد ثقته فيه. وإلا فقد نفقد المصداقية بلا عودة ولا نستطيع إنقاذ المواطن من شكوكه الوجودية كلما نظر إلى نفسه في المرآة