كل
يوم أتساءل ..
ما
دمت أحب كل ركن في الوطن العربي بهذا الشكل، لم الغربة؟ أوطاننا كانت تشعرنا بأن
غيرها من الأوطان أفضل منها، لكن ذلك غير
صحيح
يمكن
مثلاً أن أقضي العمر بطوله مع بدر القاهرة
صيفاً ...
ومع
أمواج الدار البيضاء وطرابلس والرباط
شتاءً ..
وفي
غوطة دمشق ربيعاً ..
وفي
بيروت خريفاً
وقبل
أن أنسى ...
سأحجز
لي مكاناً في أحضان جبل صبر بتعز ..
وآخر
في بيت قديم من بيوت صنعاء ..
وآخر
في وادٍ من وديان عمان ..
وآخر
في مسقط أسمع منه ارتطام البحر بالصخر..
وآخر
في إب والحديدة تحت المطر ..
وآخر
في عدن على متن جمل ..
وآخر
في صور أتنقل من قارب صيد قديم إلى قارب
أقدم ..
وآخر
في صلاصة في أول الخريف وآخر الصيف
أنا
عاطفية ومنحازة ، أعترف...
وأعلن
على الملأ أنني لم أعشق مدينة كما عشقتها
...
تلك
التي عرفتني قبل أن أفتح عيني على الدنيا
: دمشق.
لم
تحتضني مدينة كما احتضتني تلك الفيحاء ..
ولم
أستنشق من التوابل ما استنشقته بين جدران
أزقتها العتيقة ..
ولم
تلمسني مساحة في المكان كما لمستني هي..
اشتقتُ
إليها ولا أعرف إن اشتاقتْ إلي، لكن لا
تسألوها فهي الآن عني وعنكم مشغولة
وأرجو
من القاهرة ألا تغار ..
فقد
أحببتها وعشقتها "على
كبر"
أما
دمشق فعرفت حبها "على
صغر"
.. لا
منافسة بينهما ...
فالقاهرة
قاهرة ، ولا يليق بها أن تغار لا من دمشق
ولا من غيرها ...
من
يرضع من حنان القاهرة لن يشعر يوما بأنه يتيم
مهما تيتم
وطبعاً
ستسألون:
وماذا
عن القدس يا ديمة؟ القدسُ يا أصدقائي هي
التي سأعشقها مستقبلاً عندما نتعارف ...
هي
قدري وقدرنا جميعاً، وفيها سأجد زقاقًا
ينتظرني منذ الأزل، يعرف اسمي وفصلي ونسبي
وأصلي ..
لأختبئ
فيه وأختفي حتى ينتهي المستقبل ..
فالقدس
هي القدر
وكيف لي أن أنسى بنغازي؟ بنغازي التي تعرفت عليها حرة أبية، بلا كهرباء، لأن كهرباءها كانت لا تزال رهن من تحررت
منهم بنغازي دون غيرها -
آنذاك
.. كنت أشعر أنني وحدي معها في ليلها الدامس، وكان
البحر أفضل الرفاق على الإطلاق ..
كانت
الأمواج تنقلُ إلي بخجل، همسة بعد همسة، أخبار
طرابلس الأسيرة - آنذاك
أما
الرياض فمدينة مليئة بالأسرار ...
كل
سر يخفي سراً آخر ...
كلما
قشرتَ طبقة، تجد طبقة أخرى ثم أخرى ..
وكلما
تعمقت في الطبقات، أصبحت الرياض أجمل ..
لكن
التنقل بين الطبقات سر بحد ذاته
وعكس
الرياض: بيروت.
تلك
المدينة التي تتباهى بجمالها بلا خجل،
ويبدو لك أن أسرارها أقل من أسرار غيرها. تمشي
في شوارعها ليلاً وتشعر بأنك تتجول في
حكايات أهلها فهم ذاقوا مرارة الحرب
وتعلموا تذوق الحياة على الملأ ، لأن
الحياة قصيرة عندما تكون صواريخ العدو
قريبة
أما
كازابلانكا، الدار البيضاء، فيا إلهي
...
لم
أر موجاً مثل موجها..
تمتدُ
الموجة أمتاراً طويلة .. وتشعر بأن الموج سيزحف إليك أينما كنت. ما زلت أرى الأطفال يلعبون والموجة تتسلل من تحت أقدامهم .. ما زلت أسمع أصواتهم تختلط مع هدير البحر وكأنها تنادي المهاجرين : متى تعودون من الشمال؟
الموجة أمتاراً طويلة .. وتشعر بأن الموج سيزحف إليك أينما كنت. ما زلت أرى الأطفال يلعبون والموجة تتسلل من تحت أقدامهم .. ما زلت أسمع أصواتهم تختلط مع هدير البحر وكأنها تنادي المهاجرين : متى تعودون من الشمال؟
هل
أسمع بغداد تنادي ، وفي صوتها غصة : "وأنا
وأنا؟" أنتِ محقة يا بغدادَنا..
هل
تذكرين دموعي كل يوم، في كل خلوة بيني
وبين مرآة أواجه فيها حقيقة البشر التي
سمحتْ لأعتد جيوش العالم أن تغتصبك وتهدر
دماءك وتيتم أطفالك وترمل نساءك؟ هل
تذكرين كيف اعتصر قلبي حزناً وعجزاً أمام
محنتك؟ ودارت الأيام فحلت عليك لعنة
الديكتاتوريين العرب واختاروك دون غيرك
للجلوس هنيهةً على كراسيك في ما يسمونه "قمة". لكنهم
راحلون..
راحلون.
وأنا
لم أزرك بعد إلا قلباً.
لكني
آتية .. آتية. وسأستمع إلى حكاياتك من المساء حتى
الصباح ..
كل
مساء وكل صباح
أما
أنتِ يا تونس فلا تقلقي ...
صمتي
عن حبك ليس إلا دلالة على عجزي عن التعبير
عن حبٍ أضحى أكبر مني، حبٍ لا تعبر عنه أي كلمات ..
فحبك
يا تونس هو حب وطن عربي بأكمله. أنتِ شعلة متجددة تنير دروب الحب إلى كل المدن
هل
أكمل؟ هل أخبر الدوحة أنني أحبها ..
عرفتها
وهي طفلة صغيرة ، وعدت لأجدها كبيرة ..
مضيئة
..
تعج
بالكثيرين غيري ممن أحبوها من بعدي..
بعضهم
أحلى مني بكثير ، والبعض الآخر أحلى مني
بقليل ...
لكني
على يقين بأن مكاني القديم لن يسرقه أحد
لأن الدوحة دوحة الجميع ..
دوحة
لم تعد صغيرة لا شكلًا ولا فعلاً..
صارت
أكبر بكثير مما تخيلتها يوماً
فتشت
في الأطلس العربي فوجدت المزيد والمزيد
...
الكويت
لا أعرفها، نواكشوط لا أعرفها، لكن عمّان
تنظر إلي باستغراب، فأسترجع أيامي في
مدرجها الروماني وأعدها بالعودة ..
وتلك
دبي ترمقني بنظرة غريبة، مثل أهلها
الغرباء، فأطلب منها السماح لأنها كامرأة
من كاتالوغ لا يُعرف إن كانت حلماً أم
حقيقة ...
وها
هي المنامة تناديني، فيها سأنام هنيئة
وقد أنام لياليَ أخرى في سترة أو الدراز أو
السنابس
أعرف
والله أعرف ..
السودان
تحزم حقائبها ولا تريد مقابلتي...
دايرة
إشنو؟ انتظري ، كنتُ أبحث عن حبر يليق بك
..
فقد
وصفوكِ لي وأتوق للقائك وإن كنتِ الآن
نصفَ سودان، أو ربما سودانين اثنين ...
لا
بأس..
فالحب
لا تهمه الأنصاف و بكل تأكيد يقبل المـَثنى
لم
أنمْ ..
أو
ربما نمت على سفر..
أو
سافرت على نوم ..
في
أرجاء الجزائر الحبيبة ...
فجبت
صحراءها، وعرفت طعم قراها، ولامست جدران
أزقتها...
وتهت
في ثنايا باب الواد بالجزائر العاصمة..
تهتُ
حتى اختطفني جسر من جسور قسنطينة وكدتُ
أقع في وادي الرمال..
لولا
أن وهران أصرت إلا أن أقضي الليلة معها..
وهران
التي هجرها "ناس
شطارة، قعدوا في الغربة حيارة".. فتحتُ
عيني في غربتي "الصعيبة"
كاراكاس
على أمل مواصلة الرحلة الجزائرية في ليلة
أخرى، ومواصلة الرحلة العربية في كل الأيام الأخرى
---
ملاحظة : أتوقع من كثيرين أنهم سيسألون لم كتبتُ عن مدينة أكثر من أخرى، أو لم غيبت مدينة ما؟ هو كلام كتبه قلمي كما تجلى له .. ليس فيه انحياز مقصود ولا إقصاء مقصود. هو القلب يميل كل يوم إلى طرف، لكنه يحب قطعاً كل المدن العربية