كم هو فظيع ذلك الشعور بالعجز، العجز بكل معانيه. العجز أمام ما يحصل في الوطن، العجز أمام الدماء التي تراق والكل يعرف أنها ستراق كل يوم وكل ليلة
العجز اللوجستي، العجز البدني، العجز النفسي، والأخطر: العجز الأخلاقي
العجز - عن بعد - أمام وطن يتمزق، وأناملُ لا تزال تلعب الشطرنج بأرواح السوريين في قاعات وأروقة فخمة حول العالم، قبل أن تتناول لقمة بعد الأخرى من مائدة "الكبة النية" السورية التي أعدت بلحم سوري حي، ثم تتقاسم الأكاذيب كما يتقاسم محتفلون قطعاً من الحلوى، وهي تشرب كأساً بعد الكأس من دماء السوريين وترفع أياديها لتقول: كاسك يا سياسة، كاسك يا طائفية، كاسك يا جيوبوليتيك... تقولها بالعربية - بلهجات عدة - وبالفارسية وبالصينية وبالانكليزية وبالتركية وبالفرنسية وبالروسية وحتى .. بالاسبانية. هل نسيتُ لغة من لغات لاعبي الشطرنج الدولي، كباراً وصغاراً، على طاولة دمشقية خشبية اختطفوها من أيادي من صنعها ونقشها وضحى من أجلها؟
أسمع ضحكاتهم وخطاباتهم و - في قمة عجزي - أقول: تباً لك يا سياسة، تباً. أنتِ أبشعُ "عـِلـْم" ابتكره الجشع الإنساني. أنتِ "علم" يجرد الإنسان من إنسانيته. أنتِ "علم" الوحوش في الغابات
قال لي أحدهم على فيسبوك: نحن مصابون بانعدام الشعور
كلا يا أصدقائي.. كلا!
انعدام الشعور ليس حقيقة، بل هو وَهْمٌ نقنع أنفسنا به لأنه سبيلنا الوحيد للتعامل مع هكذا عجز.. نتظاهر بأننا منعدمو الشعور لأن الألم أكبر منا.. كان عندي نفس الشعور إبان غزو العراق، وحرب اسرائيل على غزة. الغضب يتحول إلى كتلة لا نعرف كيف نتعامل معها بسبب عجزنا لأننا مكبلون، نكاد نختنق ... الحبل حول رقابنا هم زعماؤنا... لأن زعماءنا ليسوا زعماء، ولا نجد من يمثلنا في غضبنا ... ونجد أنفسنا أمام خيارات كل واحد منها أمر من الآخر. فنختبئ، بسبب عجزنا، في وهم انعدام الشعور
تذكرت ذلك الرجل التونسي الذي قال في مطلع الثورات العربية: هرمنا.. قالها تعبيراً عن أمل ولد في سيدي بوزيد لدى الشباب بينما هو شعر بأنه هرم في انتظار اللحظة التاريخية. أقول له: لقد وصلت اللحظة التاريخية إلى سورية، ونحن.. عَجَّزْنا بانتظارها.. ثم عجِزْنا يا صديقي التونسي لأن السياسة امتطت الثورة، لأن السياسة تأكل الثورة كما تلتهم الذئاب الجائعة فريستها، تنهال عليها بلا رحمة، تتسابق وتتدافع على نهش لحمها، وهي لاتزال حية
سورية حية يا صديقي التونسي، تضحي كل يوم، تتمزق كل يوم... سورية حية يا صديقي التونسي وتتمسك بالحياة رغم كل شيء.. نشاهد أشلاءَها تتحرك أمامنا، كل يوم، وهي ترى عجزَنا يتجمد أمامها، كل يوم... نسمع صرخاتـِها الأليمة، كل يوم، وهي لا تسمع، كل يوم، سوى صمتنا المطبق
------
التدوينة مهداة إلى والدتي وهي تعبير عما شعرتُ بأنها تمر به
ملاحظة: أعرف أنكم معتادون مني على كتابات أكثر فرحاً وأكثر تفاؤلاً.. لقد كتبت الكلام في لحظة ألم، لكن الألم مهما اشتد لا يعني أن يغيب الأمل.. أليس الفرق بين الألم والأمل مجرد تبادل بين حرفين؟
2 comments:
لقد وصلت اللحظة التاريخية إلى سورية، ونحن.. عجزنا.. عجزنا يا صديقي التونسي لأن السياسة امتطت الثورة، لأن السياسة تأكل الثورة كما تلتهم الذئاب الجائعة فريستها، تنهال عليها بلا رحمة، تتسابق وتتدافع على نهش لحمها، وهي لاتزال حية
مناجاة وجدانية عبرت فينا إلى ابعاد حقيقية نعيشها ونتألم لها وما بيدنا أي حيلة تحيتي لقلمك الجميل يا ديمة الرائعة مع خالص تقديري ... سميرة أحمد - سوريا
نعم يا ديما.. لقد هرمنا، شيء ما انكسر في داخلنا.. نحب الحياة ولم نعد نحظى بها. انهم يمنعون حتى الهواء عنّا ليوفروا لهم هذه المائدة الفخمة. يأكلون من لحمنا ويشربون نخبهم من دمنا. الكثير حول السلطة والقليل حول الوطن، قالها غاندي. والضحية الوحيدة هم الابرياء، هذه الشعوب التي لم تحلم بأكثر من: عيش حرية وعدالة اجتماعية.. فلماذا يصعب علينا الحصول عليها رغم انها حقوقنا وليست طموحات. تحياتي لك من ثغر جرح عتيق اسمه العراق.
Post a Comment