30 Apr 2014

في رثاء بـاسم صـبري


إلى صديقي الباسم أبداً في قلبي، باسم صبري 

أجلس هنا على نفس الكرسي الذي جلستَ أنت عليه عندما زرتني. أتذكر؟ تناولنا إفطاراً بسيطاً معاً. كنت تستغرب أن الأضواء في أبو ظبي تشعل وتطفئ وحدها. قلت لي: في حاجة غريبة عندك في البيت يا ديمة. قلت لك إنها أضواء حساسة تتأثر بالحركة، لتوفير الطاقة. فقلت لي بسخرية وحرقة: إنتو عندكو النور بيضوي وبيطفي بالحركة وإحنا في مصر ما عندناش نور 

كان قلبك محروقاً على مصر. كان قلبك محروقاً على المصريين. كان قلبك محروقاً على ما وصفته لي في نص قبل فترة قصيرة كتبت فيه: "حالة البلاد والمزاج السائد وكوني أقلية ضمن أقلية". والأقلية ضمن الأقلية التي تحدثت عنها هي الأقلية التي حافظت على توازنها وتسامحها وتقبلها للآخر وسط حالة الجنون التي تحيط بك. أنت من القلائل الذين لم يفقدوا صوابهم في حالة فقدان الصواب الجماعية 

قبل رحيلك بيوم واحد كتبت على تويتر: إذا كان الجميع قد فقدوا عقلهم، فكيف يعرف المرء انه هو كذلك لم يفقده؟ 

يصعب علي وصفك. أنت تجسد بالنسبة لي الإنسان. كثيراً ما حدثونا عن الإنسانية ومعنى الإنسانية وقيم الإنسانية. أنت تلك الإنسانية ولعلك أحسن وجوه الإنسانية التي أتخيلها. أتحدى أي شخص أن يظهر يوماً ويقول إنك أسأت إليه أو ظلمته أو جرحته، ولا حتى بنظرة. أشك في أنك يمكن أن تكون قد تسببت في حياتك حتى في مقتل حشرة. أنت تحب الحياة وتحب كل ما فيها. أنت تحب الجمال وتراه حيث لا يراه الآخرون. أنت تنبش الجمال حتى في أبشع مشاهد الدنيا وأقسى لحظاتها 

أنت أخي الصغير الذي يتفوق علي دائماً فكرياً وفلسفياً، ويرسل إلي نصوصه كي أصححها له لغوياً ونحوياً، وتخشى دائماً أن تكون لديك أخطاء كثيرة. أنت كاتب بارع موهوب يخوض في السياسة كما يخوض في شؤون الحياة والموت والحب. شفافيتك في كتاباتك هي نفسها شفافيتك في تعاملك مع من تحب ومع كل من يصادفك في دربك. أعرف حجم الكاتب فيك وأعرف أن طاقة الكتابة لديك أكبر مما تعرف أنت نفسك 

طلبت مني قبل أيام فقط، مازحاً، أن أكتب عنك قصيدة. كان علي أن أكتب: أنت قصيدة يا باسم 

أنت مرجعي الدائم في مصر. عندما أعجز عن فهم ما يحدث أنت من تشرح لي بكل عمق وبكل موضوعية، دون أن تتهم أي جهة أو تسيء بالكلام إلى أي جهة. أنت الضمير الذي يطمئنني بأن مصر ستقف من جديد على قدميها طالما فيها شخص مثل باسم صبري 

أتَذْكُرُ عندما نشرتُ على حسابي على تويتر تدوينة لك من مدونتك مواطن عربي، أعجبك أنني كتبت: المواطن العربي باسم صبري يكتب.. ما زلت أنشر كتاباتك بنفس الطريقة. طلابي في الجامعة يتذكرون كلامك حين ألقيت عليهم محاضرة صغيرة عبر سكايب في إحدى حصصي. يرون فيك الكاتب الشاب اللامع الذي يطمحون لأن يكونوا مثله 

قلت لك مراراً: لو دخلتَ معترك السياسة فلن نبقى أصدقاء. كنت تستغرب كلامي. فأشرح لك أن السياسة قذرة وتحول كل من يمسها إلى كاذب وتغيره وأنا لا أريدك أن تتغير أبداً. لكنك عندما أخبرتني عن نشاطك السياسي وأنا أتابع كتاباتك التي تنضج أكثر فأكثر وتبهرني وتبهر الآخرين أكثر فأكثر، أصبحت أقتنع بأن شخصاً مثلك إن دخل السياسة فهو من سيغيرها. فمعدنك أنت لا يتغير 

أنت ذلك العقل الذي يتحداني في مبارزاتنا اللغوية. تأتيني بكلمة لا أعرفها بلغة ما، وتعرف أنت كل تاريخها وأصلها وفصلها. أنت ذلك العربي الذي أستطيع أن أرسل له شيئاً بالاسبانية فيفهمه، بالفرنسية فيفهمه، بالبرتغالية فيفهمه. أنت ذلك المرهف الإحساس الذي يشاركني حبي لشتى أنواع الموسيقى في العالم. أنت ذلك القارئ الشغوف المستعد دائماً لقراءة نصوصي وهي رضيعة قبل حتى أن أراجعها، فتشد على يدي وتشجعني، ولا تتردد في نقدي دون أي تجريح. أنت ذلك الأمين الذي أروي له شجوني وفرحي في حياتي اليومية، فيحزن معي ويفرح معي. أنت ذلك المستمع الذي أستطيع أن أتحدث معه عن أي شيء كان على الإطلاق وأستطيع أن أروي كل الحقيقة وأعرف أنك لن تحكم علي أبداً بل ستساندني في السراء والضراء 

نعم، يصعب وصفك. نعم يصعب لأحد أن يصدق أن ما أكتبه هو عن شخص حقيقي موجود في الدنيا.. أو موجود الآن في قلوب من يحبونه. أنت أجمل من أن تكون حقيقة في دنيا مليئة بما هو عكسك 

أَتَـذْكـُرُ عندما خرجنا بعد عملي في مكتب الجزيرة في القاهرة وتجولنا ليلاً في صخب تلك المدينة التي تسكنك بقدر ما تسكنها؟ أنا أعشق القاهرة ليلاً وأنت تعرف ذلك، أنت من تعمل حتى الفجر بلا كلل ولا ملل (نسيت أن أصف قدرتك على تحمل ضغوط العمل، فأنت تعمل ما لا يقل عن ١٥ ساعة يومياً). بعد تلك الجولة كتبتُ إحدى قمرياتي مطاردة ليلية .. وأذكرُ فرحتـَك حين قرأتَها، فقلتَ لي بابتسامتك الطفولية: أسرع السيارات؟ إنتي دخلتي عربيتي في قمريتك؟ الله

نعم يا باسم. "عربيتك" دخلت في قمريتي ولن تخرج منها أبداً، وأنت دخلت قلبي ولن تخرج منه أبداً. قد يظن من يقرأ النص أنني مغرومة بك. نعم أنا أحبك حب الأخت الكبرى لأخيها الصغير الذي طالما نصحها بحكمته كأنه هو الأخ الأكبر. أنا مغرومة بك بقدر ما يستطيع الإنسان أن يغرم بإنسان صديق، رفيق للروح. معك تعلمت معنى الصداقة الحقيقية، النقية 

‫هذا الصباح هو أحزن صباح في حياتي. أنت كتبت قبل فترة عن آلام الجسد والروح والقلب حين يفقد الإنسان شخصاً يحبه. أنت تعرف الآن إذاً كم أتألم‬ 

‫تبكي الدنيا في قلبي، كما قال الشاعر الفرنسي بول فيرلين‬‬ 
‫أنت ذواق للشعر وللجمال .. ستعجبك أبيات فيرلين‬ 

‫Il pleure dans mon coeur‬ 
‫Comme il pleut sur la ville 
‫Quelle est cette langueur‬ 
Qui pénètre mon coeur ? 

ستبكي الدنيا بأسرها طويلاً في قلبي على رحيلك يا باسم، ويبدو لي من كمية الحب والرثاء التي أراها تأتي من كل صوب وحدب أن الدنيا كلها تبكي فعلاً على رحيلك. يعجز قلمي عن رثائك ولا أستطيع أن أكتب عنك في الماضي. أنت هنا دائماً، لا يوجد من أو ما يعوض عنك، فابق أرجوك، ابق هنا دائماً 

تسألني طبعاً عن "ابق" وعن سبب كتابتها هكذا. يا باسم هو فعل بصيغة الأمر، معتل الآخر، يحذف منه حرف العلة 

أعرف أنك لا تحب أن تراني حزينة ولا أن يبكي قلبي، فأنت الباسم الدائم، رغم كل الآلام والشجون والهموم. من أجلك سأواصل مسيرة باسم وأبتسم .. ليت لدي ابتسامتك الطفولية البريئة 

يرحمك الله يا باسم، هو من يعرف أكثر منا كلنا كل ما أحاول أن أقوله عنك 

شكراً على كل عطائك 

أنت خسارة كبيرة لمصر 
أنت خسارة كبيرة للمستقبل العربي 
أنت خسارة كبيرة للإنسانية 
وأنت خسارة كبيرة لي 


أختك الكبيرة-الصغيرة 
ديمة الخطيب



أبو ظبي، صباح ٣٠ أبريل نيسان ٢٠١٤ 

17 Apr 2014

كــلَّ - فيديو



ترددت كثيراً قبل أن أختار هذا النص لإلقائه في لقاء مطول ضمن برنامج  ضيف ومسيرة على قناة فرانس٢٤ 

النص موجود مكتوباً لمن يفضلون القراءة

بصراحة لا أعرف كيف تجرأت وقرأته، فهو في النهاية نص رومنسي للغاية يكشف عن جانب مني قد لا يعرفه الكثيرون ممن تابعوني على شاشة الجزيرة مراسلة في شؤون السياسة وسواها في أمريكا اللاتينية وآسيا






كنت مضطربة قبل يوم من التسجيل في باريس، أردد النص مرات ومرات وأنا أمشي في شوارع المدينة، كي لا تهرب من ذاكرتي الكلمات، فأنا لم يسبق أن ألقيت أي نص غير صحفي بقلمي على شاشة التلفزيون. ولعل أول مرة ألقي فيها شعراً يظهر على شاشة الانترنت كانت بفضل الصديقة ميسون السويدان، الشاعرة الكويتية المبدعة، حين ترجمت قصيدة لبابلوا نيرودا في صالونها بالقاهرة: صالون ميس

ألقيت نصاً آخر في البرنامج على فرانس٢٤، ليس رومنسياً، وهو: طـفل عربـي


لقاء في برنامج "ضيف ومسيرة" على فرانس٢٤

اللقاء موجود على موقع فرانس٢٤ 



14 Apr 2014

حـلـو الوطـن : باريـس - جـنـيـف


تمشي في شوارع باريس تائهاً بين جماليات ساحرة، هنا وهناك، لا تكاد عيناك تقع على شيء يشدهما إلا ويظهر شيء آخر. أياً كانت اهتماماتك لا يمكن إلا وأن تجد في باريس ما يثريها. عادة تستوقفني الكتب والموسيقى والأسواق المفتوحة (لأشياء مستعملة) في الهواء الطلق والناس .. وأستمتع بتبادل كلمات جزائرية هنا وهناك مع أبناء الجالية الجزائرية المنتشرين في باريس في كل مكان

 لكني في آخر زيارة تفاجأت بمحل تراءى لي من بعيد، يحمل اسماً محفوراً في قلبي: مسقط رأسي


بسرعة استكشفت كل ما في المكان، وعادت إلي ذكريات ملذات "الزنبركجي" الذي كنت أشتري من فرعه في حي أبو رمانة بدمشق، وكنت أجلب منه معي إلى غربتي الأوروبية. وجدت في المحل فواكهه المجففة بالمكسرات التي أحبها، والشوكولاته بالتمر التي لم أكن أحبها. كل ما في المحل يصنع في سوريا 





المثير للاهتمام أن صاحبة المحل ليس سورية، بل سيدة جزائرية واضح أنها وقعت في غرام دمشق وأرادت أن تحول حبها للشام إلى شيء ملموس. راقبتها وهي تشرح للزبائن تفاصيل كل علبة وكل حلوى، تتحدث بكل شغف، وتقدم كل شيء بأناقة باريسية راقية


أكثر ما أحببت في المحل هي النوغا بالورد التي لم أذقها من قبل. الورد دائماً يسافر بي إلى ربوع الشام


الأيام الخوالي

وصلت جنيف بعدها بأيام واخترت أن أقيم لدى صديقة قديمة من أيام الدراسة الجامعية، وهي تسكن في منطقة غير بعيدة عن محطة القطار. في أول خروج من منزلها للمشي نحو المدينة القديمة التي أحبها مشينا قليلاً وإذ بي - من جديد - ألمح نفس الاسم المحفور في قلبي: مسقط رأسي


سلمت بالعربية، فرد علي من هم في المحل بالعربية
مقهى يقدم أنواعاً شهية من الحلويات السورية الطازجة المعدة في جنيف، مثل القطايف والهريسة، وكلها مشروحة بالفرنسية في لائحة طعام تشبه لائحة طعام السوشي الياباني


ما إن بدأت ألتقط الصور وقالت صديقتي عني إني صحفية وأحب أن أدون عما يصادفني في أسفاري، ذاكرة اسمي، حتى سارع أحد الشباب هناك وقال: هل تذكرين ولداً سورياً كنت تدرسينه البيانو في منزل والديه بجنيف؟ 
طبعاً أذكر. فقال: هو أنا، والمحل هو محل أسرتي


عادت إلي ذكريات ملذات الحلويات في منزله قبل عشرين عاماً، حين كانت والدته تقدم لي الحلويات السورية في غربتنا، أنا كطالبة وهي كزوجة موظف في منظمة دولية. لم أكن أتخيل أني بمجرد عودتي لجنيف للزيارة سأجد أحباء وأطعمة الماضي أمامي

 قابلت السيدة في اليوم التالي، فاجأتها. عرفتني. وعانقت فيها الغربة والوطن
 في كأس واحد

شعرت بالامتنان لأن زيارة باريس وزيارة جنيف معاً كانتا زيارة واحدة لوطن واحد، يسكنني، مهما ابتعد يبقى قريباً، ومهما تمرمر يبقى طعمه حلواً تحت اللسان

13 Apr 2014

كـُــلَّ



استمع للنص مسجلاً بصوتي على موسيقى نصير شمة



كــُـلَّ

أحب كلَّ حجر سافرت عليه قدماك
وكلَّ مقعد استقر عليه ردفاك
وكلَّ كتاب ودفتر وقلم غازلته يداك

أحب كلَّ جمال شربت منه عيناك
وكلَّ نسمة راقصتها يوماً وجنتاك
وكلَّ رؤيا احتضنها بنومك وصحوك جفناك

أحب كلَّ من علمك وكلَّ من رباك
وحتى كلَّ من آلمك ومن آذاك

أحب كلَّ قطرة انتعش بها ثراك
وكلَّ نوتة موسيقية تلذذت بها أذناك

أحب تلك العظيمة التي حملتك إلى دنياك
أحب كلَّ حسناء اصطادتها مقلتاك
وكلَّ امرأة قبلت قبلي شفتيها شفتاك
وحتى كلَّ حبيبة عانقت ساقيها ساقاك

أحب كلَّ ذرة جَبَلَتْكَ وكلَّ ما مهد للقياك
أحب كلَّ حكاية تختبئ في أخاديد محياك
أحب كلَّ ما يُحَبُ وما لا يُحَب في ثناياك

وأحب، كم أحب، عبرك ذلك الوطن، مثواك
بداخلك يعيش، يجمعنا، أبداً لا ينساك
ينير الدرب كبدرٍ لدُجاك
كي يطول ضُحاك
فتبقى معي هناك
كي أحبك، أنثاك
أنا جد أهواه وأهواك
ولن أحب أبداً سواه وسواك




شاهد فيديو للنص وأنا القيه على قناة فرانس٢٤


10 Apr 2014

طـفـل عـربـي


طـفـل عـربـي


أنا طـفـل عـربـي

عندما أكبر سأكون 
عاشــقاً 
حـبـيـباً 
زوجــاً 
أبــاً 
جــداً

سأصبح 
معلمـاً 
طبـيـباً 
مهندساً 
مفـكـراً 

إّلا إنْ 
أصابتني قذيفة 
أو قتلني انفجار 
أو صدمني قطار 
وأنا في حافلة المدرسة 
أو اعتقلني جندي 
وأنا أرمي الحجارة 
أو التهمني غاز الأعصاب 
أو اغتالني فوسفور أبيض 
أو حاصرتني مجاعة 
أو باغتتني رصاصة 
وأنا أبيع البطاطا 


أنا طـفـل عـربـي

أتحدث لغات أجنبية 
أتعلمها بلا مدرسة 
أول كلمة روسية : كالاشنيكوف 
أول كلمة انكليزية : إف سيكستين 
ثم تعلمت كلمات أخرى : ميغ، سوخوي، سكود، أباتشي 
العلم في الصغر كالنقش على الحجر

في بلدان أوروبية يتعلمون من عمر السابعة 
الفرق بين باخ وتشايكوفسكي 
وأنا أعرف الفرق بين قصف مدفعي وقصف جوي 
بين سيارة مفخخة وتفجير انتحاري 


في بلدان أجنبية يعرفون من عمر الخامسة 
الفرق بين الخبز الأبيض والخبز الأسمر 
ألا يعرفون خبزنا الأحمر؟ 
أحياناً لا نعرف طعم الخبز ولا لونه 
وقد لا نصل سن الخامسة 


من فلسطين نقول لأطفال سوريا 
منشوفكم بالجنة 
فيرد أطفال العراق 
جايين وياكم 
فينادي أطفال أسيوط 
وإحنا كمان 
ويلهث بائع البطاطا من ميدان التحرير 
مش تستنوني؟ 
ووراءه آخرون 
من اليمن والصومال والسودان 
وسائر البلدان 


أنا طـفـل عـربـي

أريد فقط أن أعيش 
أريد أن أصل المدرسة 
قطعة واحدة 
أريد ألا تقلع أظافري 
وألا أعاد إلى أهلي جثة هامدة 
أريد أن ألعب مع أصدقائي 
دون أن يسألوني 
هل أنت سني أم شيعي؟ 
هل أنت مسلم أم مسيحي؟ 


أنا طـفـل عـربـي 

أريد أن أكبر مثلكم 
وأعيش قليلاً 
وأحب كثيراً 
قبل أن أموت أخيراً 
كبيراً 
فهل أطلب الكثير؟ 
هل أطلب الكثير؟ 

أنا مـجـرد طـفـل عـربـي